إن العقول لا تحكم على أمر الله تعالى ذكره، بل أمر الله تعالى يحكم عليها
يا ابن عمران، لا تعيرن أحدا بخطيئته، وابك على خطيئتك.
يا طالب العلم، إن القائل أقل ملالة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك.
يا موسى، تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له
يا ابن عمران، لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابا لا تدري ما فتحه.
تعلم ما تعلم لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بوره، ويكون على غيرك نوره
أشعر قلبك التقوى تنال العلم.
لا تكونن مكثارا بالنطق مهذارا
وطن نفسك على الصبر تلق الحلم
اجعل الزهد والتقوى لباسك والعلم والذكر كلامك
كن نفاعا ولا تكن ضرارا، كن بشاشا ولا تكن غضبابا
ان الناس يعذبون في الدنيا على قدر همومهم بها
اياك ان تعير مسيئا باساءته فتبتلي
اصحب العلماء فانهم احب خلق الله الى الله
اذا شتمك الجاهل فاسكت عنه سلما وجانبه حزما فان ما بقي من جهله عليك وشتمه اياك اكثر
قامت الدنيا بثلاث: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله عز وجل، وبفقير صابر.
الناس في الدنيا ثلاثة: زاهدن وراغب، وصابر، فأما الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه، ولا يحزن على شيء منها فاته، وأما الصابر فيتمناها بقلبه فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها، وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم حرام.
يا عبدالله، اتق الله ولا تكثر من الحلف، فإنه لا يزيد في رزقك إن حلفت ولا ينقص من رزقك إن لم تحلف
إنتهى هذا الباب والان الى قصة اخرى مع ذوا القرنين
وصية الخضر عليه السلام
قال له الخضر: يا ذا القرنين إن الله مكن لك في الأرض وآتاك من كل شيء سبباً ولم تعلم إلا ما شاء الله أن تعلمه من علمه ولو ظهر إليك حرف مما غب عنك لا نصدع قبلك فرقاً، يا ذا القرنين حملت أمانة لو حملت على السماء انفطرت وعلى الجبال انهدمت وعلى الأرض انشقت، أعطيت الصبر وأوتيت النصر، وسترى قوماً يرون أهل الأرض عبيداً وأنهم شركاء الله في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج والله الطالب لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب والعقوبة بعد القدرة والمنع قبل الذل والغضب تحت الرضا والوفاء بعد العهد، يا ذا القرنين مرٌّ ينفع خير من حلو يضر، خذ ودع، خذ ما لزمك ودع ما لم يلزمك، يا ذا القرنين ربما رأت عينك شيئاً لم تدركه يدك ومثل لك أملك ما لم يبلغه عملك وحال دونه أجلك، يا ذا القرنين اعمل عمل من لا يموت وازهد زهادة من نزل به الموت واقنع من عيشك بالقوت. يا ذا القرنين أيقن وأتقن فإتقانك صلاح الدنيا ويقينك صلاح نفسك، يا ذا القرنين اجعل نفسك يدك في الدنيا وعينك في الآخرة امش مشي من لا يغفل ولا تعجل ولا تمهل فإن في الغفلة الهلكة وفي العجلة الندامة ومن المهل العطب كن بين حالين سدد ففي السداد الرشاد والحق دليل فاستدل ترشد والغنى لهو ومهلكة واني يفيق غاوٍ لاهٍ - يا ذا القرنين من نظر إلى الدنيا بعين سقيمة نظرت إليه بعين صحيحة وأرته النجاة وأعاضته جدة لا تخلق ومن نظر إليها بعين صحيحة شوقته بالآمال الكاذبة وكان حظه منها غدراً وزادته ندماً، يا ذا القرنين من عاش كذب ومن مات صدق مدة غايتها القطع كذب وغرور وابد لا يفي فالمطمئن إلى الحياة مخدوع والميت في منزل الأموات قدم علمه وأخر أجله فذلك الحي الذي لا يموت، يا ذا القرنين الناس عبيد الدنيا فمن نصح نفسه اعتقها ومن خلط طال رقه - راحة النفس القناعة وعذابها الحسد وزينتها العفاف -، يا ذا القرنين خذ ما ما أتيت بحزم وعزم واجعل الصبر دثاراً والحق أشعاراً والخوف من الله جنة، يزكو لك العمل وتأمن من هول الأجل، خذ بيدك سيف الله فإنه ليس له دافع ولا لنصره مانع وحسبك من كان الله له ناصراً، يا ذا القرنين خذ تحت أكتاف السماء عن شمال الأرض. قال: فحمل عساكره في المحيط يريد جزائر الأرض خلف جزيرة الأندلس، فلما وصل وعبر إلى الأرض وأخذ أهل الجزائر، وأنشأ ذو القرنين يقول:
ألا أيها الوراد قد نلت خطة ... علوت بعلميها ملوك الأعاجم
سلكت غروب الأرض حزماً بجحفل ... لنأتي أرضاً غير أرض التشائم
فعمت جميع الغرب لله دعوة ... إلى غايتها بالقنا والصوارم
خرجت على الدنيا عن اللهو محرماً ... وسقت جموعاً كالهضاب الرواكم
وردت بباب الغرب والجمع مشرع ... على موج بحر مزبد متراكم
عقدت بعين الريح عقداً يكفه ... فامسك عن مجرى المدى المتفاقم
فارجيت فيه أمة بعد أمة ... وقدمت فيه عالماً بعد عالم
فأوردتها مثل القطا فيه نهلاً ... لندرك في الدنيا قسّ المعالم
تجرعته عذباً من الماء سائغاً ... وكان أجاجاً طعمه كالعلاقم
فصرت كمثل الطير فوق متونه ... تطير خوافيه بهز القوادم
أتيت إلى واد حثيث مسيله ... برمل تراه كالجبال الرواسم
تسير مهاراً والليالي كاتبا ... ترامي بسافيه حفي المخارم
صحبت ولياً مسكن الوحي قلبه ... ليعلم من أسراره كل كاتم
وأعطيت أسباباً أرى الرشد عندها ... تناهت بصدق العلم عن كل عالم
فلما آتاه السبت أسبت وارتقي ... على متنه عمرو وعاد بعاصم
فبادر سباقاً ويعفر بعده ... بجمعها أهل النهى والمكارم
وغودر إذا ذاك المسقر قائماً ... له همة تزري على كل قائم
فرجم بعض الناس بالظن أمرهم ... وقال دعوا في الأمر دعوة حازم
وقالوا رأوا مالاً يقيمون عنده ... فحثوا إلى الحور الحسان النواعم
ومن قال في علم العيوب بعلمه ... له نومة تربى على كل نائم
فهد جنا حيَّ المسقر فجعة ... وأنت على فقدانه غير نادم
فودعني عمرو عليه تحيتي ... وفارقني من يعفر حزم حازم
فهل مبلغاً في العهد يأتيه إنه ... ليعلم أن النقض غير المآثم
كتبت بخط الحميرية آية ... بأن ليس بعدي من مسير لقادم
ولا مذهب غير الذي قد أتيتم ... بني حمير غير النسور القشاعم
ولا بد مما أن تريحون غزوة ... لقتل الأعادي والملوك النواجم
ويوشك أن تدعوا يقيناً لمثلها ... إلى المشرق الأقصى لأمر ملازم
ليعرف حق الله من قد أضاعه ... ويهتك بالأسباب سجف المظالم
ويعلم أن الدهر يبلى جديده ... ومن قارع الأيام ليس بسالم
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ومن يك مهدوماً فليس بهادم
ثم أرسل عساكره إلى جزيرة الأندلس وأمرهم أن لا يبقوا عليهم حنقاً عليهم لما فعلوا بجرجير بن عويم داعي إبراهيم الخليل عليه صلوات الله إلا من آمن منهم أو من كان على دين جرجير وما دعا إليه من الحنفية دين إبراهيم. ثم أرسل الخضر إلى قمونية في عساكره وأمره أن يلقاه بدروب الشام، وأخذ ذو القرنين على ألأرض الفرقاء، وإنما سميت الفرقاء لانفراق جزائرها في البحر حتى وصل إلى الشام لا يأتي على أمة إلا آمنت أو هلكت، وسار الخضر إلى قمونية يفعل كذلك إلى أرض بابليون يقتل من صدف ويتجاوز عمن آمن ومر إلى الشام فاخربوه ونجوا هاربين إلى بيت المقدس مستجيرين، فأرسل إلى ذي القرنين استجاروا بالله نعم الجار، فمن كان قد آمن فله ذمام الإيمان وحرمة الدين ومن كفر فإن الله عدو للكافرين أخرجهم من حرم الله المقدس واجر عليهم الجزية ففعل ذلك الخضر حتى انتهى إلى الدروب، فلقي ذا القرنين، فسارا يريدان مطلع الشمس يدعوان إلى الإيمان ولا يأتيان على أمة إلا آمنت أو هلكت حتى بلغ المحيط من عجز الأرض تحت بنات نعش فأصاب فيها أمماً من بني يافث بن حام وأوساه من بني سام، فلم يزل يحملهم على الإيمان فمن آمن نجا ومن صدف عن الحق حمله على السيف ثم عطف على الجزيرة ومضى إلى الرعاق يدعو ويقتل، ثم قصد أرض فارس فآمن من آمن وقتل من غدر وكفر ونزل على جبل الصخر ونزل على قصر المجدل وهو القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح الذي بنى في زمان البلبلة حين تبلبلت الألسن وكان من أمره وشأنه إنه استخرج الصحيفة المستودعة عند النبي صلى الله عليه التي فيها العربية، فكان عابر أول من نطق بالعربية ونطق بها معه هود عليه الصلاة السلام، وذلك إنه لما بنى القصر الأبيض وبني فيه الصرح وجعل حول القصر المجدل، وبني القصر بألواح الرخام الأبيض وسقوفه بالزجاج الأبيض وأرضه ألواح الزجاج الأبيض وكان لجامه الفردية، وأفرغ الماء تحت الزجاج من أسفل القصر، فكان القصر الأبيض أعجب ما بنى في الدنيا في وقته ولم يبن قبله في الدنيا مثله وهو أبدة من أوابد الدنيا، فلما بناه عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح وتكلم بالعربية تكلم بها معه ابنه هود النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم بها معه ابنه فالغ للذي أراد الله، وذلك أن فالغ بن عابر جد إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروع بن ارعوي ابن فالغ بن عابر، وعابر بن هود النبي صلى الله عليه وسلم وأبو فالغ، فهود أبو بني قحطان وأخوه فالغ أبو بني عدنان، فلما تكلم عابر بالعربية تكلم بها معه ابنه هود وتكلم بها معه بنو عمه ارم بن سام ين نوح وعملاق بن لاوي بن ارم بن سام بن نوح وطسم وجديس ورائش وقطورا بني لاوذ ابن ارم بن سام بن نوح فتكلم بنو ارم بن سام بالعربية كلهم ما خلا فارس بن لاوذ بن سام بن نوح فانه تكلم بالفارسية وهو فارس الأسود ورحل عابر من ارض بابل حتى نزل العراق وحير الحيرة وهو أول من نزلها وحيرها وعرق العراق بغرس النخيل وغير ذلك من الثمار وبقي ابنه فالغ لأقصر الأبيض فتكلم بالفارسية مع بني فارس الأسود فأقام فيهم هو وولده حتى بعث الله إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فأمره بالهجرة والخروج مع بني فارس إلى بني عمه هود وهم العرب بنو قحطان، فأمره أن ينزل ابنه إسماعيل في بيته مكة في بني جرهم بن قحطان للذي أراد الله من تمام أمره ووعده لنبيه إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبقي القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح إلى زمان ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد، فلما رحل ذي القرنين من جبل الصخر لاح له القصر البيض فقال: ما هذا؟ قيل له: هذا القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ، فأنشأ يقول:
أين رب الملك بل أين الذي ... شيد القصر زماناً ثم جن
أين من ينجو من الموت ومن ... أخذ العهد على رب الزمن
ثم نزل على القصر ودخله فرأى فيه أعاجيب يرى من يمشي فيه من داخل القصر ويرى من في مجالسه من ظاهرها فقال حكم فيه ما أرادوا حكم فيه ما لم يرد، وأنشأ يقول:
خرجنا من قرى الصخر ... إلى القصر فقلنا
فمن يسأل عن القصر ... فمبيناً وجدناه
رأينا القصر كالشمس ... منيراً حين أمناه
فأين الساجد السامي ... مليك القصر بناه
وقد كان به حيناً ... ولو كان سألناه
عن القوم وما قالوا ... ولو قال لقلناه
أراه العيش آمالاً ... على بعد ومناه
جرى باللهو إطلاقاً ... وسلم الدهر هناه
فراق القصر رب القصر ... حيناً ثم أفناه
إذا ما أقبلت منه ... أماني حمدناه
وإن ألوى لسوء منه ... أحياناً سئمناه
إذا ما خاننا الدهر ... بصرف منه خناه
سريعاً بعدنا يفني ... إذا نحن تركناه
ثم سار حتى بلغ إلى فج عظيم بنهاوند ثم لقيته جبال شم منيعة بينها شعاب عظيمة. فقيل له: يا ذا القرنين هذا الشعب ينفذ إلى جابر صا وهذا الشعب يصل إلى هرات ومرو وسمرقند وهذا ينفذ إلى جاجا وبلخا وحابلجا وبارد وأرض يأجوج ومأجوج، فأخذ شعب جابرصا وجابلقا فقتل من قتل وآمن ومن آمن وهو في عجز الأرض وغلب على أرمينية ومن بها، ثم عطف إلى فج نهاوند فقيل: هذا باب الأبواب وهو اسمه إلى اليوم بابا الأبواب، فأمشأ ذو القرنين يقول هذه الأبيات:
جزعنا الغرب والشرق ... وجئنا باب أبواب
وأعلا ما من الدنيا ... بآيات وأسباب
بعلم صادق الحزم ... وبأس غير هياب
بأمر الواحد القهار ... رب فوق أرباب
وفي المر تصاريف ... وآيات لألباب
وعلم فوق ذي علم ... وغلاب لغلاب
ثم مضى حتى بلغ أرض ياجوج ومأجوج فقاتلهم فغلب عليهم وأناب أمة منهم وهم بنو علجان بن يافث بن نوح فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرصا فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم ومضى يطلب ياجوج ماجوج حتى لجج في أرضهم فلم يزل يأخذها أرضاً أرضا وأمة وأمة حتى انتهى إلى الأرض الشماء وهي جبال شم شواهق شوامخ، فلم يزل يخرقها بالطرق وينزل العلو ويرقع الوهاد ويفتتحها حتى غلب عليها وبلغ الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا ربوة عليها - وغلب من بها من ياجوج وماجوج. ثم بلغ جزائر الأرض الرواب التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الأعين صغار الوجوه مشعرين وجوههم كوجوه القردة وهم لا يظهرون في النهار وإنما يظهرون في الليل يختفون من حر الشمس في المغارات والكهوف في الجبال فدعاهم بلسانهم وقد أعطاه الله سبباً من كل لسان، ثم صار في أرضهم حتى بلغ أطراف جزائر المحيط فأصاب بها أمماً من ياجوج وماجوج يقال لهم الأحرار تطلع الشمس وهم قوم سود زرق الأعين طوال الوجوه طوال الأنوف تشبه وجوههم وجوه الخنازير وهم يختفون في النهار من حر الشمس ويظهرون في الليل فدعاهم وآمنوا. فكان كما قال الله تعالى وتبارك: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً}. ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولاً حتى ترك الشمس عن يمينه ولجج في الظلمات حتى وصل إلى أرض بيضاء كالثلج فيها نبات وعليها ضوء ليس كنور الشمس نور أبيض يكاد يخطف الأبصار. قال أبو محمد: فرام أن يمشي فساخت بهم الدواب إلى الصدور فترك عساكره كلها ومضى وحده وأعطى سبباً عبر به الأرض فسار أياماً حتى أشرف على دار مفردة بيضاء فيها بيت واحد وعلى باب الدار رجل أبيض واقف وعلى سطح الدار رجل مبيض واقف قد اخذ شيئاً كمزمار فحبسه في فمه وأمسكه بيديه جميعاً وعيناه تشخص إلى السماء يشخص بهما، قال له الرجل الذي على باب الدار: إلى أين تريد يا ذا القرنين ألم يكفك أرض الأنس والجن حتى أتيت أرض الملائكة! قال له ذو القرنين: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك من ملائكة الله، قال له ذو القرنين: فما هذه الدار ومن هذا عليها؟ قال له الملك: هذه الدار دار الدنيا وهذا الذي عليها ملك من ملائكة الله أوحى الله إليه أن يريك كيف أخذ اسرافيل الصور وعيناه شاخص بهما إلى العرش ينظر متى يؤمر بالنفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون إلى الميقات فهناك الفصل والعدل وكفى بالله حسيباً يا ذا القرنين ارجع فليس لك مزيد وخذ هذا العنقود يا ذا القرنين فأعطاه عنقوداً من عنب وقال له: كل منه يا ذا القرنين وليأكل منه عساكرك فإن لهم فيه آية وهو يبلغكم إلى أرض الأنس والجن وخذ هذا الحجر فأعطاه حجراً مثل البيضة وقال له: زنه بما ترى عينك في الدنيا فإن لك فيه عظة وعبرة فرجع ذو القرنين بالعنقود والحجر إلى عساكره فأكل العنقود وأكل العساكر كلهم ولا ينقص حتى بلغ أرض العمارة فكان مما زادهم يقيناً إلى يقين وكان لهم عبرة وآية، ثم أخذ الحجر فوزنه بجميع جواهر الأرض فرجح الحجر، فلم يزل يزنه بالحجر العظيم والحديد الكبير فرجح عليه، ولم يزل يرجح كل ما وزنه به ولو وزنه بالكثير من جميع ما في الأرض ما وزنه والخضر ينظر إليه ساكتاً قال له ذو القرنين: يا ولي الله هل عندك علم من هذا المثل؟ قال له: نعم هذا الحجر مثل لعينك لم يملأ عينك جميع ما في الأرض مثل هذا الحجر الذي لم يرجح عليه شيء في الأرض، ولكن هذا يملؤها ومد يده فأخذ قبضة من تراب فجعلها في الكفة وجعل لحجر في الكفة فرجح عليها التراب وخف الحجر. قال له الخضر: هذه عينك لا يملؤها إلا التراب وهو الغلب عليها. قال أبو محمد عبد الملك: ثم إن ذا القرنين رجع حتى بلغ السد وهو بالصدفين ولا سد فيه فوجه فيه قوماً أوفر آذانهم حسيس الفلك فقليل ما يسمعون. قال الله تبارك وتعالى: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا، قالوا: يا ذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال: ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردماً، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخو حتى إذا جعله ناراً قال: آتوني افرغ عليه قطراً فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعاهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً}. قال أبو محمد فبنى السد ذو القرنين بين ياجوج ماجوج وبين الناس قال: عظم السد في جسمه ألف ذراع وفي طوله ألف ذراع. بنى جسراً دونه وهو من أوابد الدنيا من الصدفين إلى أرض أرمينية وهو مسيرة سبعة أشهر ثم سار يريد أرض الهند حتى بلغ قطر بيل فوجد بها قوماً سموا بالترجامنيين وهم من بني يافث بن نوح وإنما سموا بالترجمانيين لأنهم ترجموا صحف إبراهيم بلسانهم فأجابوا بما فيها، فلما آتاهم ذو القرنين وجدهم بقرطبيل وهم من بني عرجان بن يافث بن نوح وجدهم قد سكنوا مقابرهم ووجدهم لا غني فيهم ولا فقير ولا قاض فيهم ولا أمير ولاناه ولا آمر ورأى مواشيهم بلا رعاة ورآهم بين الأنهار في خلاء من الأرض وقفار واستغنوا منها باليسير عن الكثير، قال لهم: يا بني عرجان ما بالكم سكنتم المقابر؟
قالوا: يا ذا القرنين سكناها لئلا ننسى الموت ونطمئن إلى الحياة وتستهوينا الدنيا، وإنا رأينا الأرض كالبحر يسلكه المرء فيغطي قدميه ثم يمضي فيغطي ساقيه ثم يتمادى فيعلو حقويه ثم يمضي فيعلو منكبيه ثم يعلو رأسه ثم يضطرب بيديه ورجليه فتقلبه أمواجه فتذهب به حيث شاءت فلا يدري ما تحته من الهواء ولا ما فوقه من السماء، فكذلك تستدرج المرء تخدعه ويتبعها حتى إذا لجج سارت به حيث شاءت والدنيا دار إبليس والآخرة دار الله فمن عمل للآخرة أطاع الله وعصى إبليس ومن عمل للدنيا أطاع إبليس وعصى الله فإن إبليس نصب فتنة بكل سبيل. قال: وما بالكم أراكم ليس فيكم غني ولا فقير؟ قالوا له: رأينا غني الدنيا فقيراً بالآخرة، ورأينا معاش هذه الدنيا أعز أهلها وأعظمهم كعيش أذل من فيها وأحقرهم، ولو أن الدنيا كلها للعزيز ذهب وفضة ودر وجوهر ليس له من جميع ماله غير شبعه ولا من كسوته غير لبسه، فارفع طعام ذا في شبعه وأحسن لباس ذا في كسوته اذ دفع عنه حره وبرده كأحقر لباس ذا من كسوته اذ دفع عنه حره وبرده وكان الأمل من قلوبهما واحداً تواسينا فيما لا فضل فيه بين الأرواح والأجسام، ثم رأينا القوي منا لا غنى له عن الضعيف، والضعيف لا قوام له دون القوي وأنه متى هلك الضعيف منا هلك القوي، ومتى هلك القوي هلك الضعيف فتساوينا لئلا يكون منا ضعيف يحسد قوياً ويبغضه ولا يكون قوي يحقر ضعيفاً فواصل القوي الضعيف حتى تكافأ الناس في معاشهم فحسنت معاشرتنا. قال لهم: فما بالكم لا أمير فيكم ولا قاض ولا آمر ولا ناه؟ قالوا له: رأينا القرون من قبلنا والأمم في دهرنا يغصب القوي الجاهل الضعيف القليل الناصر، ويقهر العزيز القادر الذليل المهين ويستطيل كل ذي يد إلى ما قدرت عليه. فما من عزيز إلا أرسل الله عليه أقوى منه يسلبه قواه وأذله بعد عزه ولا يد استطالت فبطشت إلا حال الله بينها وبين ذلك بيد أبطش منها وأجهل وما من متكبر إلا أديل عليه بمتكبر ولا من أمة إلا انتقم الله منها بأمة، فلما رأينا ذلك كففنا بعضنا عن بعض البغي والعدوان والجهل والتسافه والحسد والتواكل فأصبحنا وأمسينا أخواناً وليس فينا ظالم ولا مظلوم فلما لم يجر بيننا ظلم كفانا الله بغي غيرنا من الناس واطمأنت بنا الدار وطاب لنا القرار. قال: فما بالكم بين أنهار وأنتم في خلاء وقفار ليست لكم إلا عمارة يسيرة؟ قالوا له: اجتزينا بالقوت ويسير المعاش. قال لهم: أحسنتم في جميع أحوالكم خلا عمارة الأرض أعمروها لعقبكم فإن العقب إذا لم يجد متعة يتمسك بها من معاشه تطاول بها إلى ما في يده غيره فحمل نفسه على الهلكة فأما لا دنيا ولا آخرة وأما دنيا أن ظهر عليه عدوه كان بلا دنيا ولا آخرة وإن ظفر فدنيا بلا آخرة، ولكن ذللوا الأرض للحرث واغرسوا الأشجار واستخدموا الأنهار فإنها حياة النسل والبهائم والأنعام فإن لكل دين فترة ولكل فترة كفرة ولكل كفرة سكرة واحذروا التبديل فإن لكل أمة تبديلاً وتكذيباً. ثم مضى إلى أرض سمرقند فوجد فيها الزط والكرد والصغد فقتل منهم من قتل وأجاب من أجاب، ثم أخذ أرض مرو فوجد فيها الخزر وفرغان والديلم وجميع هؤلاء القبائل من بني يافث فقتل منهم من كفر وآمن من آمن ثم مضى إلى أرض هراة فوجد فيها الخوز والإفرنج فأجابوه فغلب عليهم وقتل الجبابرة وأهل العتو في الأرض، ثم سار على البر إلى أرض الصين فلقي السند، وهم من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وقتل من قتل، ثم دخل أرض الهند - والهند أخوة السند - من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وعلى جميع أرض الصين، ثم رجع إلى أرض بابل فغلب عليها وعلى من بها من قبائل بني نوح حتى أجابوا، ثم سار يريد أرض تهامة والحج بمكة، فلما صار من رمل العراق بموضع يقال له حنوقراقر من ارض برقة رحرحان رأى في الأسباب إنه يموت بالحنو ويكون فيه قبره ومنه محشره وكان رآه أيضاً حين امتنعت من طلوعه عليها الصخرة البيضاء - فلما رأى الموت وأيقن به ونعيت عليه إليه نفسه أعلم بذلك الخضر فقال له الخضر: يا ذا القرنين انقضى الأمل وحان الأجل وبقي العمل فحكم عليك اليأس لما تقحم عليك الممات فنزل الرضا وغاب عنك القضاء، وقد وعدك الله وعداً والله متم وعده - عصم دعاته في الدنيا من المكاره وحرمهم في الآخرة على النار، فقال ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد الحميري:
لما رأيت من المنون وعيداً ... قوضت رحلك سحرة تجريداً
مثل لنفسك ملحداً أخدوداً ... واحذر لنفسك موقفاً مشهودا
وبدت لك الأسباب عن آياتها ... لما بدرت وجردت تجردا
إن اليقين يزيد لحظاً صادقاً ... وترى من الأمر الخفي وعيدا
قد حقق السبب الخبير بأمره ... لما آتاك يصدق الموعودا
ودعاك إذ حان الرحيل ولم تجد ... لما دعاك عن الرحيل محيدا
ولقد رجوت بأن تقال فلم تجد ... عند الرجاء من السنين مزيدا
ولت سنوك وغاب عنك مقامها ... وأرى لعمرك فقدها موجودا
ليس الذي ولى وإن أملته ... مما تحب إلى المنى مردودا
أني يلوم أخو النهي أيامه ... سفهاً ويكثر عندها التفنيدا
أسفاً لمن جارى الزمان ولم يزل ... بظبي المنية نحره مقصودا
أين الذي يخشة وينسى عمره ... يوماً على بعد المدى معدودا
لابد أن يلقي المنون وإن نأت ... تأبدت أيامه تأبيدا
ولقد رأى من حكمها فيما مضى ... عبرا مشين معجلاً ووئيدا
كم جددت من ذي السقام واخلقت ... بعد الغضارة والنعيم جديدا
كم الفت من شاسعين وشتت ... بعد الإقامة والجميع عديدا
من كان في حقب الدهور مخلد ... أو كان في جمع العبيد عتيدا
تستعبر الأيام منه جدة ... بعد النعيم ولو غدا جلمودا
يهتكن عنقة والثبير ووائلا ... وتحط بعد علوه عبودا
لا يطمئن إلى الزمان وريبه ... من كان لم يعهد خلودا
فايأس فلا يبقى وإن طال المدى ... من كان فوق أديمها مولودا
ألوى بحمير والمقعقع بعده ... وأباد عاداً قبله وثمودا
يا صعب حقاً كل شيء هالك ... إلا الإله الواحد المعبودا
هتكت خطوب الدهر عزك هتكه ... أمسى حسامك دونها مغمودا
أخذ الزمان من الشبيبة فرصة ... فأرى الزمان وعصره محمودا
عمرت ألفاً بعد ألف قبلها ... في العالمين وقد دعيت وحيدا
يا سائلين عن الزمان وسيره ... مذ كنت منه مضغة موؤدا
أعطيت ما لم يعط قبلي قائم ... وجمعت جمعاً كالدبا محشودا
وجلبت أهل الأرض من آفاقها ... ألفت أملاً كابها وجنودا
عج النساء لدى الحجون بمكة ... لما رأين حريمها مقصودا
فنحرت فيها ألف ألف ضحوة ... ودعوت قولاً بالمقام سديدا
فلقد أخم اللحم فيها برهة ... وحنذت لما أن أضل قصيدا
وقصدت آفاق الغروب بقدرة ... فوجدت نحساً عندها وسعودا
فهديت منها مرمناً ذا همة ... وفسرت منها كافراً وجحودا
ما أن ارم لما أجاب مخافة ... حتى يظل عن الصراط لدودا
ورأيت عين الشمس عند سقوطها ... ووردت أمواج المحيط ورودا
وبلغت أعلام المشارق كلها ... أبقى لمن أبقى بهن حدودا
فوطئت يأجوجا ومأجوجا بها ... وبنيت قطراً دونها وحديدا
فجعلت عن سربيهما مندوحة ... والفج عن دفيهما معقودا
وولجت في الظلمات حتى جبتها ... خوفاً وكان رتاجها محدودا
ولقيت تحت الشمس قوماً خلتهم ... تحت الظلام خنازرا وقرودا
وعلى بني حام غدوت بسطوة ... بالصين حتى بددوا تبديدا
فلقد كشفت الناس عن أسبابهم ... وبولت منهم طارفاً وتليدا
ولقيت منهم أنوكاو ولبيبا ... ورأيت منهم عاجزاً وجليدا
يوماً يشب من الحروب خمودها ... يوماً وتطفى للحروب وقودا
وعلوت في الدنيا بعزة قادر ... أكدت فيها للبقاء تأكيدا
حاولت أن أعطي الخلود وارتقي ... في الخافقين إلى السماء صعودا
فأبى لي الله الذي أملته ... أمسى المنى دون الرضا مردودا
فالحنو للصعب المعبهل منهل ... يمسي به أمداً له ممدودا
سيموت من تنسى المنية يومه ... وتنال بنت الدهر منه بعيدا
سلَّ المفاصل والنفوس رهائن ... تزجي البوارق فوقهن رعودا
من ذاك يدري الاين من أرواحهم ... أو ما تراهم راقبين خمودا
حالان لا تلقى النفوس سواهما ... فيها شقياً خاسراً وسعيدا
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن وهب بن منبه قال: لما نزل الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنو قراقر من أرض العراق، مرض ثماني ليال ثم مات ثم غاب الخضر، فلم يظهر إلى أحد بعده إلا إلى موسى بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع النبيين ودفن ذو القرنين بحنوقراقر، فقال النعمان بن الأسود ابن المعترف بن عمرو بن يعفر بن سكسك المقعقع الحميري يرثى ذا القرنين الحميري:
بحنو قراقر أمسى رهيناً ... أخو الأيام والدهر الهجان
لئن أمست وجوه الدهر سودا ... جلين بذاك للملك اليماني
لقد صحب الردى ألفين عاما ... ولاقاه الحمام على ثمان
إذا جاوزت من شرفات جو ... وسرت بايك برقة رحرحان
وجاوزت العقيق بأرض هند ... إلى الصوبات والنخل الدواني
وهناك الصعب ذو القرنين ثاو ... ببطن تنوفة الحنوين عانى
فمن صحب الزمان بغير صعب ... لقد صحب الزمان بلا أمان
هو الوزر الذي يلجأ إليه ... بنو الأيام من أنس وجان
لقد جاز الخلود إلى مداه ... وسار كما جرى فرساً رهان
ألم تر أن حنو الرمل أمسى ... لملك الدهر والدنيا مغان
فقل للنازلين بكل أرض ... لكم امن على بعد وآن
وقال المحمود بن زيد بن غالب بن المنتاب بن زيد بن عملاق يرثى ذا القرنين بن الحارث ذي مراثد الملك الحميري:
اسمع ذا القرنين لما علا ... عن المغاني النبأة الشامله
فيا لها من نبأة لم تكن ... مصروفة عنه ولا حائله
بخدعها عن نفسه ساعة ... فيا لها من خدعة قاتله
فأصبح الصعب ذليلاً لما ... صبحه من صيلم نازله
لم يجهل الموت ولكنه ... قد جهلت أيامه الجاهلة
لم يدفع الموت الذي جاءه ... بسكسك العز ولا عامله
سألوا على الدنيا كمثل الدبا ... ونفسه بينهم سائله
لم يصرفوا عنه سهام الردى ... لما أتته الرمية القاتله
فأصبح الحنو له منزلا ... أخرس لا يبني به سائله
قد قدم المرء له عدة ... مستنصراً زاداً بلا راحله
قال أبو محمد: حدثنا أسد عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله بن عباس إنه سئل عن ذي القرنين ممن كان؟ قال: هو من حمير وهو الصعب ابن ذي مراثد. هو الذي مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، فبلغ قرني الشمس وداس الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج، فقيل له: فالاسكندر الرومي؟ قال: كان الاسكندر الرومي رجلاً صالحاً حكيماً بنى على بحر افريقس منارتين واحدة بأرض بابليون وأخرى في غروبها بأرض أرمينية، وإنما سمي بحر المغرب بأفريقس لأنه عظيم من عظماء التبابعة أكثروا الآثار عليه في المغرب من المصانع والمدن والآبار.