قصة موسى - عليه السلام - ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث
قيل : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة ، وولد قاهث للاوي وهو ابن ست وأربعين سنة ، وولد لقاهث يصهر ، وولد عمران ليصهر وله ستون سنة ، وكان عمره جميعه مائة وثلاثين سنة .
وأم موسى يوخابد . واسم امرأته صفورا بنت شعيب النبي .
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني ، وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول .
وقيل : كانت من بني إسرائيل ، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس فرعون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه ، وكان عمره طويلا ، وكان أعتى من قابوس وأفجر ، وأمر أن يأتيه هو وهارون بالرسالة . ويقال : إن الوليد تزوج آسية بعد أخيه ، ثم سار موسى إلى فرعون رسولا مع [ ص: 151 ] هارون ، فكان من مولد موسى إلى أن أخرج ببني إسرائيل من مصر ثمانون سنة . ثم سار إلى التيه بعد أن مضى وعبر البحر ، وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة ، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته مائة وعشرين سنة .
قال ابن عباس ، وغيره ، دخل حديث بعضهم في بعض : إن الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل لم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ، ويعقوب ، وإسحاق ، وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام حتى كان فرعون موسى ، وكان أعتاهم على الله وأعظمهم قولا وأطولهم عمرا ، واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب ، وكان سيئ الملكة على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولا ويسومهم سوء العذاب .
فلما أراد الله أن يستنقذهم بلغ موسى الأشد وأعطي الرسالة ، وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، وأخربت بيوت مصر ، فدعا السحرة ، والحزاة ، والكهنة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا : يخرج من هذا البلد ، يعنون بيت المقدس ، الذي جاء بنو إسرائيل منه ، رجل يكون على وجهه هلاك مصر ، فأمر أن لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري .
وقيل : إنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا : اعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ، ويبدل دينك . فأمر بقتل كل مولود في بني إسرائيل .
وقيل : بل تذاكر فرعون وجلساؤه معا ما وعد الله - عز وجل - إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا وعد الله إبراهيم . فقال فرعون : كيف [ ص: 152 ] ترون ؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالا يقتلون كل مولود في بني إسرائيل ، وقال للقبط : انظروا مماليككم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون ذلك ، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، فذلك حين يقول الله - عز وجل - : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن ، فكان يشق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن ، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب ، وقذف الله الموت في مشيخة بني إسرائيل ، فدخل رءوس القبط على فرعون وكلموه ، وقالوا : إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا ، تذبح الصغار وتفني الكبار ، فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم ، فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون ، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها ، وهي السنة المقبلة . فلما أرادت أمه وضعه حزنت من شأنه ، فأوحى الله إليها ، أي ألهمها : أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم - وهو النيل - ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين .
فلما وضعته أرضعته ثم دعت نجارا فجعل له تابوتا ، وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم ، فلما توارى عنها أتاها إبليس ، فقالت في نفسها : ما الذي صنعت بنفسي ! لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه . فلما ألقته قالت لأخته - واسمها مريم - قصيه - يعني قصي أثره - فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون أنها أخته ، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين أشجار عند دور فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية ، وظنن أن فيه مالا ، فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته ، فلما أخبرت به فرعون ، وأتته به قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه . فقال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه .
[ ص: 153 ] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها .
وأراد أن يذبحه فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها وقال : إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا ، فذلك قوله - عز وجل - : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . وأرادوا له المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء ، فذلك قوله : وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت - أخته مريم - هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها ، وقالوا : ما يدريك ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك . فقالت : نصحهم له ، وشفقتهم عليه ، ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ، ورجاء منفعته . فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه ، فلما أعطته ثديها أخذه منها ، فكادت تقول : هذا ابني ، فعصمها الله .
وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر ، والماء بالقبطية مو ، والشجر سا . فذلك قوله تعالى : فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن .
وكان غيبته عنها ثلاثة أيام ، وأخذته معها إلى بيتها ، واتخذه فرعون ولدا فدعي ابن فرعون ، فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية ، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون ، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها ، قال فرعون : علي بالذباحين يذبحونه ، هو هذا ! قالت آسية : لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، إنما هو صبي لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل ، ولقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليا مني ، أنا أضع له حليا من ياقوت وجمرا فإن أخذ الياقوتة فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمر فإنما هو صبي ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتا من جمر فجاء جبريل فوضع يده على جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه ، فأحرقت لسانه ، فهو الذي يقول الله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . فدرأت عن موسى القتل .
وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس ، وإنما يدعى موسى بن [ ص: 154 ] فرعون ، وامتنع به بنو إسرائيل ولم يبق قبطي يظلم إسرائيليا خوفا منه .
ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له : فرعون قد ركب ، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف - وهذه منف ( بفتح الميم وسكون النون ) - مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق ، وهي الآن قرية كبيرة ، فدخل نصف النهار ، وقد أغلقت أسواقها ، على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته يقول هذا إسرائيلي قيل إنه السامري وهذا من عدوه يقول من القبط فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، وكان قد حماهم من القبط ، وكان الناس لا يعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرضاع . فلما اشتد غضبه وكزه فقضى عليه ، قال : إن هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ، أوحى الله تعالى إلى موسى : وعزتي لو أن النفس التي قتلت أقرت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب . قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين . فأصبح في المدينة خائفا يترقب أن يؤخذ ، فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه - يقول يستعينه - قال له موسى إنك لغوي مبين . ثم أقبل لينصره ، فلما نظر إلى موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين . فترك القبطي ، فذهب فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل ، فطلبه فرعون ، وقال : خذوه فإنه صاحبنا . فجاء رجل فأخبره ، وقال له : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج .
قيل : كان حزقيل مؤمن آل فرعون ، كان على بقية من دين إبراهيم - عليه السلام - وكان أول من آمن بموسى . فلما أخبره خرج من بينهم خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين . وأخذ في ثنيات الطريق ، فجاءه ملك على فرس [ ص: 155 ] وفي يده عنزة ، وهي الحربة الصغيرة ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق . فقال له : لا تسجد لي ولكن اتبعني ، فهداه نحو مدين . وقال موسى وهو متوجه إليها : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل . فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين ، فكان قد سار وليس معه طعام ، وكان يأكل ورق الشجر ، ولم يكن له قوة على المشي ، فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه . ولما ورد ماء - قصد الماء - مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، أي تحبسان غنمهما ، وهما ابنتا شعيب النبي ، وقيل : ابنتا يثرون ، وهو ابن أخي شعيب ، فلما رآهما موسى سألهما : ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض . وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير
قال ابن عباس : لقد قال موسى ذلك ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع لفعل وما سأل إلا أكلة .
فلما رجع الجاريتان إلى أبيهما سريعا سألهما فأخبرتاه ، فأعاد إحداهما إلى موسى تستدعيه ، فأتته ، وقالت له : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا . فقام معها ، فمشت بين يديه ، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق ، فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء .
فلما أتاه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين . قالت إحداهما ، وهي التي أحضرته : ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين . قال لها أبوها : القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته ؟ فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه . فقال له أبوها : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني - نفسك - ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك . فقال له موسى : ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل . فأقام عنده [ ص: 156 ] يومه ، فلما أمسى أحضر شعيب العشاء ، فامتنع موسى من الأكل ، فقال : ولم ذلك ؟ قال : إنا من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها . فقال شعيب : ليس لذلك أطعمتك إنما هذه عادتي وعادة آبائي ، فأكل ، وازدادت رغبة شعيب في موسى فزوجه ابنته التي أحضرته ، واسمها صفورا ، وأمرها أن تأتيه بعصا ، وكانت تلك العصا قد استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فدفعتها إليه ، فلما رآها أبوها أمرها بردها ، والإتيان بغيرها ، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلم تقع بيدها سواها ، وجعل يرددها ، وكل ذلك لا يخرج بيدها غيرها ، فأخذها موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة ، فلما رآه موسى يريد أخذها منه مانعه ، فحكما أول رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك في صورة آدمي فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له ، وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن . وقيل : كانت من آس الجنة ، حملها آدم معه . وقيل في أخذها غير ذلك . وأقام موسى عند شعيب يرعى له غنمه عشر سنين ، وسار بأهله في زمن شتاء وبرد ، فلما كانت الليلة التي أراد الله - عز وجل - لموسى كرامته ، وابتداءه فيها بنبوته ، وكلامه أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه ، وكانت امرأته حاملا ، فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ، ورعد ، وبرق ، فأخرج زنده ليقدح نارا لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه ، فأصلد زنده فقدح حتى أعيا ، فرفعت له نار ، فلما رآها ظن أنها نار ، وكانت من نور الله ، فـ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر ، فإن لم أجد خبرا ( آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ) . فحين قصدها رآها نورا ممتدا من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج ، وقيل من العناب ، فتحير موسى وخاف حين رأى نارا عظيمة بغير دخان وهي تلتهب في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا عظما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ، فلما دنا منها استأخرت عنه ، ففزع ورجع ، فنودي منها ، فلما سمع الصوت استأنس فعاد ، فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة . [ ص: 157 ] أن بورك من في النار ومن حولها ياموسى إني أنا الله رب العالمين ، فلما سمع النداء ورأى تلك الهيبة علم أنه ربه تعالى ، فخفق قلبه وكل لسانه ، وضعفت قوته ، وصار حيا كميت إلا أن الروح يتردد فيه ، فأرسل الله إليه ملكا يشد قلبه ، فلما ثاب إليه عقله نودي : فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ، وإنما أمر بخلع نعليه لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، وقيل : لينال قدمه الأرض المباركة ، ثم قال له تسكينا لقلبه : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ، يقول : أضرب الشجر فيسقط ورقه للغنم ، ولي فيها مآرب أخرى أحمل عليها المزود والسقاء .
وكانت تضيء لموسى في الليلة المظلمة ، وكانت إذا أعوزه الماء أدلاها في البئر فينال الماء ويصير في رأسها شبه الدلو ، وكان إذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض فنبتت لها أغصان تحمل الفاكهة لوقتها .
قال له : ألقها يا موسى . فألقاها موسى ، فإذا هي حية تسعى عظيمة الجثة في خفة حركة الجان ، فلما رآها موسى ولى مدبرا ولم يعقب ، فنودي : ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ، أقبل ( ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) عصا ، وإنما أمره الله بإلقاء العصا حتى إذا ألقاها عند فرعون لا يخاف منها ، فلما أقبل قال : خذها ولا تخف وأدخل يدك في فيها . وكان على موسى جبة صوف ، فلف يده بكمه وهو لها هائب ، فنودي ألق كمك عن يدك ، فألقاه ، وأدخل يده بين لحييها ، فلما أدخل يده عادت عصا كما كانت لا ينكر منها شيئا .
ثم قال له : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ، يعني برصا ، فأدخلها وأخرجها بيضاء من غير سوء مثل الثلج لها نور ، ثم ردها فعادت كما كانت . فقيل له : فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني ، أي يبين لهم عني ما أكلمهم به ، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون . [ ص: 158 ] قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون .
فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا ، فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه ، فجاء هارون فسألها عنه ، فأخبرته أنه ضيف ، فدعاه فأكل معه ، وسأله هارون : من أنت ؟ قال : أنا موسى . فاعتنقا .
وقيل : إن الله ترك موسى سبعة أيام ثم قال : أجب ربك فيما كلمك . فقال : رب اشرح لي صدري الآيات . فأمره بالمسير إلى فرعون ، ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مر راع من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين ، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعدما فلق البحر ، فساروا إليه .
وأما موسى فإنه سار إلى مصر ، وأوحى الله إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقيه ، فخرج من مصر فالتقى به ، قال موسى : يا هارون ، إن الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه . قال : سمعا وطاعة ، فلما جاء إلى بيت هارون وأظهر أنهما ينطلقان إلى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت : أنشدكما الله أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما جميعا ! فأبيا فانطلقا إليه ليلا ، فضربا بابه ، فقال فرعون لبوابه : من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة ؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما ، فقال له موسى : إنا رسولا رب العالمين ، فأخبر فرعون ، فأدخلا إليه .
وقيل إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان إلى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بشأنهما ، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله ، فأمر حينئذ فرعون بإدخالهما . فلما دخلا قال له موسى : إني رسول من رب العالمين . فعرفه فرعون ، فقال له : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما - يعني النبوة - وجعلني من المرسلين . فقال له فرعون : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين [ ص: 159 ] قد فتح فاه فوضع اللحي الأسفل في الأرض والأعلى على القصر وتوجه نحو فرعون ليأخذه ، فخافه فرعون ووثب فزعا فأحدث في ثيابه ، ثم بقي بضعة وعشرين يوما يجيء بطنه حتى كاد يهلك ، وناشده فرعون بربه تعالى أن يرد الثعبان ، فأخذه موسى فعاد عصا . ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ، ثم ردها فعادت إلى ما كانت عليه من لونها ، ثم أخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكل منه الأبصار قد أضاءت ما حولها يدخل نورها البيوت ويرى من الكوى ومن وراء الحجب ، فلم يستطع فرعون النظر إليها ، ثم ردها موسى في جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها .
وأوحى الله تعالى إلى موسى وهارون أن قولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، فقال له موسى : هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم ، وملكك فلا ينزع ، وأرد إليك لذة المناكح ، والمشارب ، والركوب ، فإذا مت دخلت الجنة وتؤمن بي ؟ فقال : لا حتى يأتي هامان ، فلما حضر هامان عرض عليه قول موسى ، فعجزه ، وقال له : تصير تعبد بعد أن كنت تعبد ! ثم قال له : أنا أرد عليك شبابك ، فعمل له الوسمة فخضبه بها ، فهو أول من خضب بالسواد ، فلما رآه موسى هاله ذلك ، فأوحى الله إليه : لا يهولنك ما ترى فلن يلبث إلا قليلا . فلما سمع فرعون ذلك خرج إلى قومه فقال : إن هذا لساحر عليم . وأراد قتله . فقال مؤمن آل فرعون ، واسمه خربيل : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات وقال الملأ من قوم فرعون : أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم . ففعل وجمع السحرة ، فكانوا سبعين ساحرا ، وقيل : اثنين وسبعين ، وقيل : خمسة عشر ألفا ، وقيل ثلاثين ألفا ، [ ص: 160 ] فوعدهم فرعون واتعدوا يوم عيد كان لفرعون ، فصفهم فرعون وجمع الناس ، وجاء موسى ومعه أخوه هارون وبيده عصاه حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه ، فقال موسى للسحرة حين جاءهم : ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب . فقال السحرة بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر ! ثم قالوا : لنأتينك بسحر لم تر مثله ، وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون . فقال له السحرة : ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . قال : بل ألقوا . فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا هي في رأي العين حيات أمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا ، فأوجس موسى خوفا ، فأوحى الله إليه : أن ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، فألقى عصاه من يده فصارت ثعبانا عظيما فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، وهي كالحيات في أعين الناس ، فجعلت تلقفها وتبتلعها حتى لم تبق منها شيئا ، ثم أخذ موسى عصاه فإذا هي في يده كما كانت .
وكان رئيس السحرة أعمى ، فقال له أصحابه : إن عصا موسى صارت ثعبانا عظيما وتلقف حبالنا وعصينا . فقال لهم : ولم يبق لها أثر ولا عادت إلى حالها الأول ؟ فقالوا : لا . فقال : هذا ليس بسحر . فخر ساجدا وتبعه السحرة أجمعون ، و قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل . فقطعهم وقتلهم وهم يقولون : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ، فكانوا أول النهار كفارا وآخر النهار شهداء .
وكان خربيل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ، قيل : كان من بني إسرائيل ، وقيل : [ ص: 161 ] كان من القبط ، وقيل : هو النجار الذي صنع التابوت الذي جعل فيه موسى وألقي في النيل ، فلما رأى غلبة موسى السحرة أظهر إيمانه ، وقيل : أظهر إيمانه قبل فقتل وصلب مع السحرة ، وكان له امرأة مؤمنة تكتم إيمانها أيضا ، وكانت ماشطة ابنة فرعون ، فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها ، فقالت بسم الله . فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : لا بل ربي وربك ورب أبيك . فأخبرت أباها بذلك ، فدعا بها وبولدها ، وقال لها : من ربك ؟ قالت : ربي وربك الله . فأمر بتنور نحاس فأحمي ليعذبها وأولادها . فقالت : لي إليك حاجة . قال : وما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها . قال : ذلك لك ، فأمر بأولادها فألقوا في التنور واحدا واحدا ، وكان آخر أولادها صبيا صغيرا ، فقال : اصبري يا أماه ، فإنك على الحق ، فألقيت في التنور مع ولدها .
وكانت آسية امرأة فرعون من بني إسرائيل ، وقيل : كانت من غيرهم ، وكانت مؤمنة تكتم إيمانها ، فلما قتلت الماشطة رأت آسية الملائكة تعرج بروحها ، كشف الله عن بصيرتها ، وكانت تنظر إليها وهي تعذب ، فلما رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقينا وتصديقا لموسى ، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة . قالت له آسية : الويل لك ! ما أجرأك على الله ، فقال لها : لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة ؟ فقالت : ما بي جنون ، ولكني آمنت بالله تعالى ربي وربك ورب العالمين .
فدعا فرعون أمها ، وقال لها : إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى . فخلت بها أمها ، وأرادتها على موافقة فرعون ، فأبت وقالت : أما أن أكفر بالله فلا والله ! فأمر فرعون حتى مدت بين يديه أربعة أوتاد وعذبت حتى ماتت ، فلما عاينت الموت قالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين . فكشف الله عن بصيرتها فرأت الملائكة وما أعد لها من الكرامة ، فضحكت فقال فرعون : انظروا إلى الجنون الذي بها ! تضحك [ ص: 162 ] وهي في العذاب ! ثم ماتت .
ولما رأى فرعون قومه قد دخلهم الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه ، وقال لوزيره : يا هامان ابن لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا . فأمر هامان بعمل الآجر ، وهو أول من عمله ، وجمع الصناع وعمله في سبع سنين ، وارتفع البنيان ارتفاعا لم يبلغه بنيان آخر ، فشق ذلك على موسى واستعظمه ، فأوحى الله إليه : أن دعه وما يريد فإني مستدرجه ومبطل ما عمله ساعة واحدة . فلما تم بناؤه أمر الله جبرائيل فخربه وأهلك كل من عمل فيه من صانع ومستعمل . فلما رأى فرعون ذلك من صنع الله أمر أصحابه بالشدة على بني إسرائيل ، وعلى موسى ، ففعلوا ذلك ، وصاروا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقونه ، وكان الرجال والنساء في شدة ، وكانوا قبل ذلك يطعمون بني إسرائيل إذا استعملوهم ، فصاروا لا يطعمونهم شيئا ، فيعودون بأسوإ حال يريدون يكسبون ما يقوتهم ، فشكوا ذلك إلى موسى ، فقال لهم : استعينوا بالله واصبروا ، إن العاقبة للمتقين ، عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .
فلما أبى فرعون وقومه إلا الثبات على الكفر ، تابع الله عليه الآيات ، فأرسل عليهم الطوفان ، وهو المطر المتتابع ، فغرق كل شيء لهم . فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فكشف الله عنهم ونبتت زروعهم ، فقالوا : ما يسرنا أنا لم نمطر . فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم ، ، فسألوا موسى أن يكشف ما بهم ويؤمنوا به ، فدعا الله فكشفه ، فلم يؤمنوا وقالوا : قد بقي من زروعنا بقية . فأرسل الله عليهم الدبا ، وهو القمل ، فأهلك الزروع والنبات أجمع ، وكان يهلك أطعمتهم ، ولم يقدروا أن يحترزوا منه ، فسألوا موسى أن يكشف عنهم ، ففعل ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، وكانت تسقط في قدورهم وأطعمتهم وملأت البيوت عليهم ، فسألوا موسى أن يكشف عنهم ليؤمنوا به ففعل ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه الفرعونيين دما ، وكان الفرعوني والإسرائيلي يستقيان من ماء واحد ، فيأخذ الإسرائيلي ماء ويأخذ الفرعوني دما ، وكان الإسرائيلي يأخذ الماء من فمه فيمجه في فم الفرعوني فيصير دما ، فبقي ذلك سبعة أيام ، فسألوا موسى أن يكشف عنهم [ ص: 163 ] ليؤمنوا ، ففعل فلم يؤمنوا .
فلما يئس من إيمانهم ومن إيمان فرعون دعا موسى وأمن هارون فقال : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . فاستجاب الله لهما ، فمسخ الله أموالهم ، ما عدا خيلهم وجواهرهم وزينتهم حجارة ، والنخل ، والأطعمة ، والدقيق ، وغير ذلك ، فكانت إحدى الآيات التي جاء بها موسى . فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدسة ، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرأة عجوز فأرته مكانه في النيل ، فاستخرجه موسى ، وهو في صندوق مرمر ، فأخذه معه فسار ، وأمر بني إسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم ، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئا كثيرا .
وخرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون ، وكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وهارون على مقدمتهم ، وكان بنو إسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفا وتبعهم فرعون ، وعلى مقدمته هامان ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون يا موسى ! أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، أما الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ، وأما الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا . قال موسى : كلا إن معي ربي سيهدين .
وبلغ بنو إسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم ، فأيقنوا بالهلاك ، فتقدم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، وصار فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق ، فقال كل سبط : قد هلك أصحابنا . فأمر الله الماء فصار كالشباك ، فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا ، ودنا فرعون وأصحابه من البحر فرأى الماء على هيئته والطرق فيه ، فقال [ ص: 164 ] لأصحابه : ألا ترون البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي ؟ فلما وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله ، فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق ، فشمت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم ، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم .
وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه ، وقال حين أدركه الغرق : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وغرق ، فبعث الله إليه ميكائيل يعيره ، فقال له : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . وقال جبرائيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو رأيتني وأنا أدس من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها .
فلما نجا بنو إسرائيل قالوا : إن فرعون لم يغرق . فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقا ، فأخذه بنو إسرائيل يتمثلون به ، ثم ساروا فأتوا على قوم يعبدون الأصنام فقالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون . فتركوا ذلك .
ثم بعث موسى جندين عظيمين كل جند اثنا عشر ألفا إلى مدائن فرعون ، وهي يومئذ خالية من أهلها قد أهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ، ولم يبق غير النساء ، والصبيان والزمنى ، والمرضى ، والمشايخ ، والعاجزين ، فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله من غيرهم ، وكان على الجندين يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا .
وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنه إذا خرج مع بني إسرائيل منها وأهلك الله عدوهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله فرعون وأنجى بني [ ص: 165 ] إسرائيل قالوا : يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا . فسأل موسى ربه ذلك ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ويتطهر ويطهر ثيابه ويأتي إلى الجبل - جبل طور سينا - ليكلمه ويعطيه الكتاب ، فصام ثلاثين يوما أولها أول ذي القعدة ، وسار إلى الجبل واستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ، فلما قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوك بعود خرنوب ، وقيل : تسوك بلحاء شجرة ، فأوحى الله إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ؟ وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى ، فصامها ، وهي عشر ذي الحجة ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة .
ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى ، وكان السامري من أهل باجرمى ، وقيل : من بني إسرائيل .
فقال هارون : يا بني إسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم ، والحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة ، فاحفروا حفرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه ، ففعلوا ذلك ، وجاء السامري بقبضة من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل ، فألقاه فيه فصار الحلي عجلا جسدا له خوار ، وقيل : إن الحلي ألقي في النار فذاب فألقى السامري ذلك التراب فصار الحلي عجلا جسدا له خوار ، وقيل : كان يخور ، ويمشي ، وقيل : ما خار إلا مرة واحدة ولم يعد ، وقيل : إن السامري صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ، ثم قذف فيه التراب ، فقام له خوار .
فلما رأوه قال لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى وتركه [ ص: 166 ] ههنا وذهب يطلبه ، فعكفوا عليه يعبدونه ، فقال لهم هارون : ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ، فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم ، فأقام بمن معه ولم يقاتلهم . ولما ناجى الله تعالى موسى قال له : وما أعجلك عن قومك ياموسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك - يا موسى - وأضلهم السامري . فقال موسى : يا ربي هذا السامري قد أمرهم أن يتخذوا العجل ، من نفخ فيه الروح ؟ قال : أنا . قال : فأنت إذا أضللتهم .
ثم إن موسى لما كلمه الله تعالى أحب أن ينظر إليه قال : رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ ، وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه ، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوما ، ثم يكشفها لما تغشاه من النور ، فلما وصل إلى قومه ورأى عبادتهم العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه ، قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . فترك هارون وأقبل على السامري ، وقال : فما خطبك ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس . ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه ، وأمر السامري فبال عليه ، وذراه في البحر .
فلما ألقى موسى الألواح ذهب ستة أسباعها وبقي سبع ، وطلب بنو إسرائيل التوبة [ ص: 167 ] فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى : ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ، فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، فقتل منهم سبعون ألفا ، وقام موسى ، وهارون يدعوان الله ، فعفا عنهم وأمرهم بالكف عن القتال وتاب عليهم ، وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال : إنه سخي ، فلعنه موسى .
ثم إن موسى اختار من قومه سبعين رجلا من أخيارهم ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم ، وصوموا ، وتطهروا . وخرج بهم إلى طور سينا للميقات الذي وقته الله له . فقالوا : اطلب أن نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودخل فيه موسى ، وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا حتى دخلوا في الغمام ، فوقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا . فقام موسى يناشد الله تعالى ويدعوه ويقول : يا رب ، اخترت أخيار بني إسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدقونني . ولم يزل يتضرع حتى رد الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون . فقالوا : يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاكه ، فادعه يجعلنا أنبياء . فدعا الله فجعلهم أنبياء .
وقيل : أمر السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني إسرائيل ، فلما مضوا للميقات واعتذروا قبل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضا ، والله أعلم .
ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأثقال والشدة التي جاء بها ، وأمر الله جبرائيل فقطع جبلا من فلسطين على قدر عسكرهم ، وكان فرسخا في فرسخ ، ورفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظلة ، [ ص: 168 ] وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم ، فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به ، وإلا رضختم بهذا الجبل وغرقتم في هذا البحر وأحرقتم بهذه النار . فلما رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شق وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود ، فصارت سنة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا : سمعنا وأطعنا .
ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوما لا يراه أحد إلا مات ، وقيل : ما رآه إلا عمي ، فجعل على وجهه ورأسه برنسا لئلا يرى وجهه .
ثم إن رجلا من بني إسرائيل قتل ابن عم له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر ، ثم أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني إسرائيل ، فجحدوا فسأل موسى ربه ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فقالوا : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين المستهزئين . فقالوا له : ما هي ؟ ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ، وإنما كان تشديدهم لأن رجلا منهم كان برا بأمه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه بره بأمه ، فلم يجدوا على هذه الصفة المذكورة إلا بقرته ، فباعها منهم بملء جلدها ذهبا ، فلما سألوا موسى عنها قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر يقول : لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين . قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ، قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها - يعني لا عيب فيها ، وقيل لا بياض فيها - قالوا الآن جئت بالحق . وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البار بأمه ، فاشتروها ، فغال بها حتى أخذ ملء جلدها ذهبا ، فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها ، وقيل : بغيره ، فحيي وقام وقال : قتلني فلان . ثم مات .