]right]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أضع بين أيديكم قصة رسول الله لوط عليه السلام.
ولمن فاتته سيرة أبراهيم عليه السلام فهذا هو الّرابط : سيرة إبراهيم عليه السلام
قصّة نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام
لوط عليه السلام هو ابن أخي ابراهيم الخليل عليه السلام , امن به وآزره وهاجر معه حين اذوه قومه إلى أرض الشام , قال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام : "فآمن له لوط وقال إنّي مهاجر إلى ربي انه هو العزيز الحكيم" فلمّا قدم لوط مع أبراهيم عليهما السلام إلى أرض الشام بعثه الله عز وجل إلى أهل قرية "سدوم" وما حولها من القرى يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والمآثم والمحارم والفواحش التي لم يسبقهم بها أحد من بني ادم.
دعوة لوط عليه السلام قومه
أرسل الله عز وجل لوطا عليه السلام إلى قوم قد تعدّوا حدود الله عز وجل أكبر تعدٍّ فعبدوا غيره وانغمسوا في ارتكاب الفواحش في مجالسهم جهارا من غير خجل ولا مروءة واقترفوا المنكرات التي لم يكن يألفه بني ادم ألا وهي إتيان الذكران من العالمين ,وكانوا يقطعون السبيل على النّاس فينهبوا أموالهم ويعتدوا عليهم بغير حق .كان أولئك القوم يسكنون قرى "سدوم" و-"عمّورة" وما حولها على شاطئ البحر الميت او ما يسمّى ب-"بحر الملح" ,فجاءهم لوط عليه السلام ومكث فيهم يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له وينهاهم عن الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين. قال عز وجل :
"كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ" , وقال عز وجل : " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ"
أي : كيف تذرون النساء اللاتي خلقهن اللّه لكم، وفيهن المستمتع الموافق للشهوة والفطرة وتتركون ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها ، وتُقبلون على أدبار الرجال، التي هي غاية ما يكون في الشناعة والخبث، ومحل تخرج منه النجاسات والأخباث، التي يُستحيى من ذكرها فضلا عن ملامستها وقربها , فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن , فسبحان الله أين ذهبت عقولهم ؟! بل حالهم كما قال عز وجل عنهم : "لعمرك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون".
فلمّا دعاهم عليه السلام إلى الفطرة السليمة والأخلاق السّويّة من عبادة الله عز وجل وحده والتنزّه عن الخبائث والفعال القبيحة , ردّوا عليه بالمناقضة والتهديد والوعيد بأن يخرجوا نبيّهم الناصح ورسولهم الأمين من بينهم , والعجب ان الذي حملهم على ذلك أنّهم لا يحبّون المتطهّرين ويكرهون من يأمر بالفضيلة والعفاف , قال الله عز وجل عنهم : " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" فانظر إلى تلك النّفوس الخبيثة والقلوب العمياء كيف جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات وجعلوا غاية المدح ذمّا فانقلبت موازين فطرتهم لانتكاس قلوبهم وأبصارهم فرماهم نبيّ الله لوط عليه السلام بالجهل والإسراف وذهاب عقولهم ورشدهم, نسأل الله العافية.
ولم يكتفوا بتهديد نبيّهم بالأذى, بل استعجلوا العذاب والبلاء تأكيدا لكفرهم وإشهارا لتكذيبهم نبيّهم لوط عليه السلام فقالوا : "ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" , فدعا عليهم و-" قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ" , فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث ملائكته الكرام لإهلاكهم.
ابراهيم عليه السلام يجادل في قوم لوط
أرسل الله عز وجل ملائكته الكرام إلى لوط عليه السلام ليخبروه بأمر الله عز وجل وينجّوه ومن معه من المؤمنين, فمرّوا قبل ذلك على الخليل ابراهيم عليه السلام يبشّروه وامرأته سارة بإسحاق عليه السلام ثم سألهم الخليل عليه السلام عن خبرهم وما سبب إرسالهم فأخبروه بالخطب الجسيم والأمر الذي لا يردّ, فما كان من الخليل عليه السلام إلاّ ان حاول استبطاء العذاب وذلك أنه كان يرجو أن ينيبوا ويسلموا، ويقلعوا ويرجعوا ولات حين مناص , قال عز وجل : "فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ" , فجعل إبراهيم عليه السلام يجادل في قوم لوط ولم يدر أنّه لا سبيل إلى هدايتهم فقد استحبّوا العمى على الهدى ورضوا بأسافل الأخلاق وأراذل الأفعال, وصار يُجادل الملائكة في ذلك قائلا : " إنّ فيها لوطاً" فطمأنته الملائكة بقولها : " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين" , عند ذلك سكنت نفس إبراهيم عليه السلام وسكن روعه ثمّ حسمت الملائكة المجادلة والمناقشة بقولها :
"يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ " أي: دعك من هذا الجدال وأعرض عنه وتكلّم في غيره فإنه قد جاء أمر ربّك بإهلاكهم فلا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه ففوض الأمر إليه فهو سبحانه عليم بالمفسدين.
دخول الملائكة قرى قوم لوط واستضافة لوط عليه السلام لهم وما لاقوه من أذى القوم
فلمّا فصلت الملائكة من عند إبراهيم عليه السلام توجّهوا إلى قرى "سدوم" , ودخلوها في صور شبّان حِسان ابتلاء من الله واختبار ولتقام على أولئك القوم الحجّة , وليَبان عيبهم وفضيحتهم أمام نبيّهم عليه السلام. فلمّا دخلوا تلك الدّيار نزلوا بيت لوط عليه السلام يستضيفونه, فلمّا رآهم في هذه الصورة الحسنة والخلقة الجميلة النّضرة ظنّهم بشرا, وشقّ عليه مجيئهم وضاق بهم ذرعا (أي لم يجد حيلة في عمل أي شيء فيرفض استضافتهم) فلم يكن بدّ من استضافتهم وكان قومه قد نهوه عن استضافة الرّجال في قولهم : "أولم ننهك عن العالمين", فإنه لن يحول بينهم وبين مرادهم الخبيث مكانة نبي الله فيهم , قال عز وجل في ذلك : " وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ".
فتأمّل رحمك الله موقف لوط عليه السلام في ذلك اليوم , لمّا رأى الأضياف في صوَر حسان جميلة سيئ بهم وحزن لأمرهم ثم حاول أن يجد مخلصا من استضافتهم لِما علم من قبيح فعال قومه وأنّهم إذا رأوا أضيافه في هذا الحسن والجمال فلن يتركوهم حتى يُشبعوا رغبتهم القبيحة بهم , فأسرّ في نفسه قائلا : "هذا يوم عصيب" أي :شديد بلاؤه , يوم حرج صعب , فرحم الله لوطا عليه السلام.
وما هي إلاّ لحظات حتى جاء قومه يُهرعون إليه مسرعين يريدون أضيافه بالفاحشة التي اعتادوا على فعلها ولم ينتهوا عنهم , قال عز وجل : "وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ" وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها احد من العالمين , فمع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكثيرة أرادوا الإستزاد منها والإستكثار , وهذا هو طبع ألو القلوب الخبيثة والنّفوس الرّديئة.
فحاول لوط عليه السلام دفعهم وتذكيرهم بتقوى الله عز وجل لعلّ ذلك يحرّك في نفوسهم شيء من المروءة والنّخوة فقال لهم مستلطفا بهم ناصحا لهم شفيقا عليهم : "يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ" فعرض عليهم بنات قومه ونسائهم يتزوّجوهن ويعدلوا بهنّ عن الذكران , ولأن النبيّ للأمة بمنزلة الوالد كما في الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا بمنزلة الوالد يعلّمكم" (صحيح أبو داود) ولأنّ وأزواجه أمّهاتهم ناسب أن يقول : "هؤلاء بناتي" , ثم ذكّرهم أنّ أولئك ضيوفا عنده والأصل في الضيف أن يكرم ويعز لا أن يُهان ويهتك عرضه فقال لهم : " فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ " يقول لهم عليه السلام : فإمّا ان تُراعوا تقوى الله عز وجل وإمّا أن تُراعوني في ضيفي وتحفظوا لهم كرامتهم ولا تخزون فيهم , وإنّي أعجب ألاّ يكون فيكم رجل فيه ذرّة خير ورشد فينهاكم ويزجركم. وهذه شهادة من لوط عليه السلام على انحلالهم من الخير والمروءة , وانّ الجميع سفهاء أغبياء فجرة لا مسكة في عقولهم.
فاجتهد لوط عليه السلام في محاولة لنهيهم وتذكيرهم في شتّى الطرق إلاّ انّ النّفوس خبيثة قد غشيها الرّان والكدر فلا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا إلاّ ما أشربت من هواها , فاخترقوا الأعذار الواهية وقالوا له :
" قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ", فأنظر إلى ما هم فيه من الفجور والضلال فهذا نبيّهم عليه السلام ذكّرهم بتقوى أولا إن كان عندهم منها شيء ثم بالنخوة والمروءة والرّجولة وأن يحفظوا له كرامة ضيوفه فردّوا ذلك كلّه وأعرضوا عنه وذكّروه أنّهم لم يتغيّروا على ما هم عليه بل ازدادوا طغيانا وهم الان أشدّ رغبة في الذكران مما كانوا عليه من قبل فقالوا له : نحن نعلم أنك قد علمت ما لنا رغبة في بناتك وإنك تعلم مرادنا ولا نريد إلاّ الرّجال ولا رغبة لنا في النّساء فلا تنهك نفسك في صدّنا عن مُرادنا ثمّ إنّا قد نهيناك عن استضافة الرّجال من قبل فاليوم وقد تعدّيت النهي فلا تلومنّ إلاّ نفسك , فوصف الله عز وجلّ حالهم مقسما بحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم : "لعمرك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون" وهذه السكرة هي سكرة حبّ الفاحشة فلا يبالون معها بلوم ولا زجر , فبعدا لتلك النّفوس الدّنيئة والقلوب الخبيثة.
فلما رأى رسول الله لوط عليه الصلاة والسلام منهم الإعراض والعناد أجابهم جواب يائسٍ من إرعوائهم فقال : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" و-"لو" مستعملة للتمنّي (والباء هي باء الاستعلاء في "بكم") , والمعنى أنه عليه السلام يقول لهم : ليت لي قوّة أدفعكم بها ولكن لغربتي فيكم وقلّة المؤمنين بي لا أجد أنصارا لي على الحق أدفعكم بهم أو "آوي إلى ركن شديد" يعني : أو ليتني أعتصم بذي سلطان كقبيلة أو عشيرة يمنعني ويحميني منكم فأحلّ بكم ما تستحقّونه من العذاب والنّكال, وهذا أقصى ما أمكنه في تغيير هذا المنكر والبلاء الذي حلّ به, وهذا الجواب بحسب الأسباب المحسوسة, وإلاّ فإن رسول الله لوط عليه السلام يأوي إلى أٌقوى الأركان وأشدّها وهو الله عز وجل , لهذا نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ ما قاله لوط عليه السلام إنّما كان من باب الأخذ بالأسباب المحسوسة وإلاّ فإنه دائم التوّكل والاعتماد على مسبب الأسباب ويعلم أن الله ناصره ومُعلي كلمته , فقال صلى الله عليه وسلم : " ورحمة الله على لوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد (يعني الله عز وجل) إذ قال لقومه { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } وما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه(الثروة : الكثرة والمنعة)"(أحمد وغيره بإسناد صحيح)
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : "أما قصة لوط؛ فإن لوطاً لم يغفل عن الله عز وجل، ولم يترك التوكل عليه، وإنما ذكر السبب، وذكره للسبب وحده يتخايلُ منه السامع نِسيانه لله، فأراد نبينا عليه السلام ألا نقول ما يوهم هذا ".
نجاة المؤمنين وهلاك الطغاة المعاندين
فعندئذ أخبرت الملائكة لوطا عليه السّلام أنّهم رسل من عند الله عز وجل وانّ أولئك القوم لن يّصلوا إليك فيمسّوك مكروه فليطمئّن قلبك وليهدأ روعك قالت الملائكة : " يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ" لكنّ الأمر لم ينتهي مع أولئك القوم بل استمرّوا على عنادهم أصرّوا على مرادهم في ارتكاب الفاحشة الخبيثة مع رسل الله عز وجل , فمّا اشد الأمر وعظم الكرب وعسر الحال خرج إليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم فطمس أعينهم كما قال عز وجل في ذلك : "وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ" , فانطلق القوم يتوعّدون لوطا عليه السلام وأضيافه بمجيء الصبح لينتقموا منهم , "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام أن يسري هو وأهله من اخر الليل قبل الفجر بكثير حين تنام العيون ولا يدري أحد عن مسراهم وليتمّكنوا من البعد عن قريتهم فقالوا له : " فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وأمر الملائكة لوطا عليه السلام والذين معه إذا خرجوا ألاّ يلتفتوا خلفهم اذا سمعوا صوت العذاب لا يصيبهم ما أصابهم وليكن همّهم النّجاة وقالوا لهم : "وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ" كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون.
وأمّا امرأة لوط فإنّه مصيبها من العذاب ما أصاب قومها لأنّها كانت تشارك قومها في الإثم وتدلّهم على أضياف لوط اذا نزل به أضياف لتعينهم على المنكر , فذكر الله عز وجل أن هذه المرأة خانت زوجها في الدّين وأعانت على محاربته وعداوته كما فعلت امرأة نوح من قبل قال الله عز وجل : "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا" فأمر الملائكة لوطا عليه السلام ألاّ يسير بامرأته وأن يتركها مع القوم الهالكين لتنال العقوبة والعذاب معهم فإنّها منهم . وأخبروه أن العذاب سوف يحلّ بهم بمُجرّد ان تشرق الشمس فقالوا : " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ" فكأن لوطا عليه السلام استعجل ذلك فقيل له : " أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" وهذا ممّا رأى من عنادهم وطغيانهم وتجرّئهم على أضيافه الكرام رغم التذكير والوعيد , وذلك انهم لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدَّر الله من الأسباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم.
وخرج لوط عليه السلام ومن معه من المؤمنين ولم يكن في القوم إلاّ بيتا واحدا من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام كما أخبر الله تعالى : " فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" , فما هو إلاّ أن أشرقت الشمس فنزل بهم العذاب الموعود قال عز وجل في ذلك : "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ" أي وقت شروق الشمس , وقال عز وجل : " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" وقال عز وجل :" وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى* فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى " (والائتفاك : الانقلاب) , والمعنى أنه عز وجل قلب قراهم فأهوى بها منكّسة فجعل عاليها سافلها وغشّاها بمطر من حجارة صلبة محمّاة بنار شديدة الحرارة مُتتابعةُ، مُعلّمة ,على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين، والشاذين منها. فكان ذلك عذاب يوم عظيم مهيب, لهذا قال عز وجل: "فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى" وذلك لتهويل ما أصابهم وما غشيهم من العذاب الأليم.
قال أهل التفسير كمجاهد وقتادة والسُّدي وغيرهم : بلغنا أن جبريل عليه السلام اقتلع أرضهم وديارهم ثم ألوى بها إلى السماء حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم وجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم بحجارة من سجّيل (ذكره ابن كثير في تفسيره). فما هي إلاّ لحظات حتى أصبحوا حصيدا خامدين لا تسمع لهم ركزا ولا تسمع منهم همسا , ذهبت تلك المساعي وانقضت تلك النّعوت ... "فقطع دابر القوم الذين ظلموا" , "لو أنّهم كانوا يهتدون" "وسلام على المرسلين * والحمد لله ربّ العالمين".
العبرة والعظة
قال عز وجل : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ" أي: من نظر بعين الفراسة والتوسّم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة, هالكة غامرة؟ و – " وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ" أي: وإنّ قرى قوم لوط لبطريق بيّن للسالكين يعرفه كل من مرّ بتلك الدّيار وأنّ مسالكها مستمرّة إلى اليوم , فانظروا كيف جعلها الله عز وجل عبرة وعظة لمن خلفهم من الأمم وآية على قدرة الله عز وجل وعزّته وانتقامه ممن حارب رسله وخالف أمره واتّبع هواه , قال تعالى : " وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" , فهي اية بيّنة باقية إلى يوم القيامة تركها الله عز وجل دليلا على جبروته وانتقامه ونكالا لما بين يديها وما خلفها ليتعظ بها أولو العقول الرّزينة فينتفعون بها فيفرّون إلى الله عز وجل ويعلمون أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلاّ اليه. لذلك حذّر الله عز وجل قريشا أن يصيبهم ما أصابهم من البلاء والعقاب فقال لهم: "وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ *وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" أي: وإنّكم لتمرون على ديار قوم لوط الذين دمر الله عليهم عند إصباحكم نهاراً ، وبالليل في أسفاركم كقوله عز وجل : "وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا" ومع هذا كلّه لا تخافون من أن يحلّ عليكم غضب من ربّكم فيصيبكم ما أصابهم من النّكال والبأس الشديد فقال عز وجل :"وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" وذلك ليعلم العباد أن الله عز جل اذا أخذ القرى وهي ظالمة فإنّ أخذه أليم شديد وأن عذابه ما له من دافع , وليعلم العباد أن رسل الله صادقون مُصدّقون فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ... "ففرّوا إلى الله".
وذكر سبحانه وتعالى تحذير نبيّه شعيبا لقومه لمّا دعاهم إلى الله أن ينزل بهم بأس الله وعذابه كما فعل بأشياعهم من قبل , قال تعالى : " وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ" , والمراد هنا البُعد في الزمان والمكان فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام ، والدّيار قريبة من ديارهم التي سمّاها الله عز وجل ب-"المؤتفكات" أي القرى التي انقلبت على أصحابها فصاروا يسمّون بصفة العذاب الذي حلّ عليهم وألحق بهم جزاءً وفاقا , "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ".
عقوبة من عَمِل عَمَل قوم لوط
روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، ثَلاثًا ) وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند .
وقد أجمع الصحابة على قتل من عمل عمل قوم لوط وتبعهم في ذلك طائفة كثيرة من الأئمّة ونصَّ عليه الشافعي، وأحمد بن حنبل , لكن اختلفوا في طريقة قتل ، فمنهم من ذهب إلى أن يحرق بالنار ، وهذا قول علي رضي الله عنه ، وبه أخذ أبو بكر رضي الله عنه. وذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه يُرمى به من أعلى شاهق منكّسا، ويتبع بالحجارة كما فعل الله عز وجل بقوم لوط وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله واستدلّ أهل العلم على ذلك بقوله عز وجل: "وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" أي: وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم. وانتصر ابن القيّم رحمه الله إلى القول بانّ من فعل هذه الفعل النّكراء يُقتل على أيّ حال, محصنا أو غير محصن, ولا يدخل في ذلك المُكره ولا الصبيّ الذي لم يبلغ.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : فالعاقل اللبيب، الخائف من ربه الفاهم، يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله، من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجواري من السراري ذوات الجمال. وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى: " وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" , ثم قال رحمه الله: ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ** فما قوم لوط منكم ببعيد .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا) . رواه ابن ماجه , وحسنه الألباني في " صحيح ابن ماجه.
وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم, نسأل الله العافية والنّجاة.[/right]